فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.سُورَةُ النَّصْر:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم.

.تفسير الآية رقم (1):

{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}.
فِيهِ ذِكْرُ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ: فَمَعَ كُلِّ نَصْرٍ فَتْحٌ، وَمَعَ كُلِّ فَتْحٍ نَصْرٌ.
فَهَلْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ أَمْ لَا؟
كَمَا جَاءَ النَّصْرُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْفَتْحُ مُطْلَقًا.
أَوْلًا: اتَّفَقُوا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَمَعْلُومٌ: أَنَّهُ سَبَقَ فَتْحَ مَكَّةَ عِدَّةُ فُتُوحَاتٍ.
مِنْهَا فَتْحُ خَيْبَرَ، وَمِنْهَا صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَتْحًا فِي قَوْلِهِ: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [48/ 27].
وَالنَّصْرُ يَكُونُ فِي مَعَارِكِ الْقِتَالِ وَيَكُونُ بِالْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ، وَيَكُونُ بِكَفِّ الْعَدُوِّ، كَمَا فِي الْأَحْزَابِ. {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [33/ 25].
وَكَمَا فِي الْيَهُودِ قَوْلُهُ: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [33/ 26- 27].
فَالنَّصْرُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [3/ 126].
وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [2/ 214]، فَهُمْ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى النَّصْرِ.
وَيَأْتِيهِمُ الْجَوَابُ: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [2/ 214].
وَجَاءَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ».
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَأَخِيهِ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [20/ 46]، فَهُوَ نَصْرُ مَعِيَّةٍ وَتَأْيِيدٍ، فَالنَّصْرُ هُنَا عَامٌّ.
وَكَذَلِكَ الْفَتْحُ فِي الدِّينِ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَعْظَمُ الْفَتْحِ فَتْحَانِ: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ.
إِذِ الْأَوَّلُ تَمْهِيدٌ لِلثَّانِي، وَالثَّانِي قَضَاءٌ عَلَى دَوْلَةِ الشِّرْكِ فِي الْجَزِيرَةِ، وَيَدُلُّ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ فِي النَّصْرِ وَالْفَتْحِ.

.تفسير الآية رقم (2):

{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}. فَكَأَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ حَتَّى مِنَ الْيَمَنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الدَّعْوَةِ وَنَجَاحِ الرِّسَالَةِ.
وَيَدُلُّ لِهَذَا مَجِيءُ آيَةِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [5/ 3]، وَكَانَ نُزُولُهَا فِي حَجِّ تِلْكَ السَّنَةِ.
وَيُلَاحَظُ أَنَّ النَّصْرَ هُنَا جَاءَ بِلَفْظِ نَصْرِ اللَّهِ، وَفِي غَيْرِ هَذَا: {جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [8/ 10].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ هُنَا لَهَا دَلَالَةُ تَمَامٍ وَكَمَالٍ، كَمَا فِي بَيْتِ اللَّهِ. مَعَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا بُيُوتٌ لِلَّهِ، فَهُوَ مُشْعِرٌ بِالنَّصْرِ كُلَّ النَّصْرِ، أَوْ بِتَمَامِ النَّصْرِ كُلِّهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْفَتْحُ، هُنَا قِيلَ: هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، وَقِيلَ فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَغَيْرِهَا.
وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى فُتُوحَاتٍ عَدِيدَةٍ قَبْلَ مَكَّةَ.
وَهُنَاكَ فُتُوحَاتٌ مَوْعُودٌ بِهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ نَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْهَا فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ، لَمَّا اعْتَرَضَتْهُمْ كُدْيَةٌ وَأَعْجَزَتْهُمْ، وَدُعِيَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَخْذَ مَاءً وَتَمَضْمَضَ وَدَعَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ ثُمَّ ضَرَبَ، فَكَانَتْ كَالْكَثِيبِ.
وَقَدْ جَاءَ فِيهَا ابْنُ كَثِيرٍ بِعِدَّةِ رِوَايَاتٍ وَطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّهَا تَذْكُرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ، فَأَبْرَقَتْ تَحْتَ كُلِّ ضَرْبَةٍ بَرْقَةً، وَكَبَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَسَأَلُوهُ فَقَالَ «فِي الْأُولَى: أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ» وَذَكَرَ الْيَمَنَ وَالشَّامَ، وَكُلُّهَا رِوَايَاتٌ لَا تَخْلُو مِنْ نِقَاشٍ، وَلَكِنْ لِكَثْرَتِهَا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَأَقْوَاهَا رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ بِسَنَدِهِ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَةَ الْخَنْدَقِ، وَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [6/ 115]، فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ، فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرْقَةٌ ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَرَأَ مَا قَرَأَهُ أَوَّلًا، وَبَرَقَتْ أَيْضًا. ثُمَّ الثَّالِثَةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَكَسَّرَتْ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ، فَسَأَلَهُ سَلْمَانُ لَمَّا رَأَى مِنَ الْبِرْقَاتِ الثَّلَاثِ: فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رُفِعَتْ لَهُ فِي الْأُولَى مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ حَتَّى رَآهَا بِعَيْنِهِ، فَقَالُوا: ادْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْنَا. فَدَعَا لَهُمْ، وَفِي الثَّانِيَةِ: رُفِعَتْ لَهُ مَدَائِنُ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا، وَفِي الثَّالِثَةِ مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ، وَكُلُّهَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ فَتُفْتَحَ عَلَيْهِمْ، فَدَعَا لَهُمْ إِلَّا فِي الْحَبَشَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ» انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَدْ رَوَاهُ كُلٌّ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَالنَّسَائِيِّ مُطَوَّلًا، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ مَقَالًا فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُوَطَّأِ مَا لَا يَحْتَمِلُ مَقَالًا، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا فِي دَلَالَتِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَيُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».
فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ بِفَتْحِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَمَا فُتِحَتْ كُلُّهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْيَمَنُ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، إِذْ قَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ طِبَاعُهُمْ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْهُ.
وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ عَامَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَجَاءَتِ الْوُفُودُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عَامَ تِسْعٍ مِنْهَا، وَجَاءَ وَفْدُ الْيَمَنِ وَأَرْسَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَّالَهُ إِلَى الْيَمَنِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقِدَمِ عَلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْيَمَنِ فِي الْعَامِ الْعَاشِرِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، فَفُتِحَتِ الْيَمَنُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَلَيْهِ: تَكُونُ فُتُوحَاتٌ قَدْ وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، يُمْكِنُ أَنْ يَشْمَلَهَا هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْفَتْحُ} وَلَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا قَالُوا.
وَقَدْ يُؤْخَذُ بِدَلَالَةِ الْإِيمَاءِ: الْوَعْدُ بِفُتُوحَاتٍ شَامِلَةٍ، لِمَنَاطِقَ شَاسِعَةٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [22/ 27]؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَدُلُّ عَلَى الْإِتْيَانِ إِلَى الْحَجِّ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْإِتْيَانَ إِلَى الْحَجِّ يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَبِالتَّالِي يَدُلُّ عَلَى مَجِيءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُوَ مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.تفسير الآية رقم (3):

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّسْبِيحِ وَمُتَعَلِّقِهِ وَتَصْرِيفِهِ.
وَهُنَا قَرَنَ التَّسْبِيحَ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَفِيهِ ارْتِبَاطٌ لَطِيفٌ بِأَوَّلِ السُّورَةِ وَمَوْضُوعِهَا، إِذْ هِيَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ مُهِمَّةِ الرِّسَالَةِ بِمَجِيءِ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلِدِينِهِ. وَمَجِيءِ الْفَتْحِ الْعَامِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِ اللَّهِ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ وَيَسْتَحِقُّ مُولِيهَا الْحَمْدَ.
فَكَانَ التَّسْبِيحُ مُقْتَرِنًا بِالْحَمْدِ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: بِحَمْدِ رَبِّكَ، لِيُشْعِرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُولِي لِلنِّعَمِ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الضُّحَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [93/ 3].
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ اقْرَأْ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [96/ 1]، وَتَكْرَارُهَا: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [96/ 3]؛ لِأَنَّ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ مُشْعِرَةٌ بِالْإِنْعَامِ.
وَقَوْلُهُ: {وَاسْتَغْفِرْهُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ عَنْ ذَنْبٍ فَمَا هُوَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [94/ 2].
وَمِمَّا تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ التَّوْبَةَ دَعْوَةُ الرُّسُلِ، وَلَوْ بَدَأْنَا مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قِصَّتِهِ فَفِيهَا: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [2/ 37]، وَمَعْلُومٌ مُوجِبُ تِلْكَ التَّوْبَةِ.
ثُمَّ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ [71/ 28].
وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [2/ 128].
وَبِنَاءً عَلَيْهِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ نَفْسَهُ عِبَادَةٌ كَالتَّسْبِيحِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ ذَنْبٍ.
وَقِيلَ: هُوَ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ.
وَقِيلَ: رَفْعٌ لِدَرَجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»، فَتَكُونُ أَيْضًا مِنْ بَابِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ.

تَنْبِيهٌ:
جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ قَوْلَهُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» أَيْ: يُفَسِّرُهُ، وَيَعْمَلُ بِهِ.
وَنَقَلَ أَبُو حَيَّانَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ مَعَ التَّسْبِيحِ تَكْمِيلٌ لِلْأَمْرِ بِمَا هُوَ قِوَامُ أَمْرِ الدِّينِ، مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالِاحْتِرَازِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلِيَكُونَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ لُطْفًا لِأُمَّتِهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ فَهُوَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ.
وَفِي هَذَا لَفْتُ نَظَرٍ لِأَصْحَابِ الْأَذْكَارِ وَالْأَوْرَادِ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى دَوَامِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ هَذَا كَانَ مَنْ أَكْثَرِ مَا يُدَاوِمُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ دُونَ الْمُلَازَمَةِ عَلَى ذِكْرِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، مُنْفَرِدًا مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ صَحِيحٌ وَلَا صَرِيحٌ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي الِاتِّبَاعِ لَا فِي الِابْتِدَاعِ، وَأَيُّ خَيْرٍ أَعْظَمُ مِمَّا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، وَيَأْمُرُهُ بِهِ، وَيُلَازِمُ هُوَ عَلَيْهِ.
وَقُلْنَا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ: لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ بَعْدَهَا بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةُ الْإِيمَاءِ، كَمَا قَالُوا: وَدَلَالَةُ الِالْتِزَامِ كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ كِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، حِينَمَا كَانَ يَسْمَحُ لَهُ بِالْجُلُوسِ مَعَهُمْ، وَيَرَى فِي وُجُوهِهِمْ، وَسَأَلُوهُ وَقَالُوا: إِنَّ لَنَا أَوْلَادًا فِي سِنِّهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ.
وَفِي يَوْمٍ اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فَدَعَاهُ عُمَرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَا دَعَانِي إِلَّا لِأَمْرٍ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} السُّورَةَ.
فَقَالُوا: إِنَّهَا بُشْرَى بِالْفَتْحِ وَبِالنَّصْرِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ أَنْتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟
قَالَ: فَقُلْتُ، لَا وَاللَّهِ، إِنَّهَا نَعَتْ إِلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا.
فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا لَا أَعْرِفُ فِيهَا إِلَّا كَمَا قُلْتَ، أَيْ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ لِمُهِمَّةٍ، وَقَدْ تَمَّتْ بِمَجِيءِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالدُّخُولِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا.
وَعَلَيْهِ يَكُونُ قَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ. فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِمُلَاقَاةِ رَبِّهِ لِيَلْقَى جَزَاءَ عَمَلِهِ، وَهُوَ مَأْخَذٌ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ، وَبَيَانٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوْ فَهْمٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ.

.سُورَةُ الْمَسَد:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآية رقم (1):

{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. التَّبُّ: الْقَطْعُ.
وَمِنَ الْمَادَّةِ: بَتَّ بِتَقْدِيمِ الْبَاءِ، فَهِيَ تَدُورُ عَلَى مَعْنَى الْقَطْعِ، كَمَا يُفِيدُهُ فِقْهُ اللُّغَةِ فِي دَوَرَانِ الْمَادَّةِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَالَ: التَّبُّ، وَالتَّبَبُ، وَالتِّبَابُ، وَالتَّبِيبُ، وَالتَّتْبِيبُ: النَّقْصُ وَالْخَسَارُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَتَبَّتْ يَدَاهُ: ضَلَّتَا وَخَسِرَتَا.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: التَّبَاتُ: الْهَلَاكُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [40/ 37]، أَيْ: فِي هَلَاكٍ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا لَهَبٍ أَهْلَكَ نَفْسَهُ بِفَسَادِ اعْتِقَادِهِ وَسُوءِ فِعَالِهِ، كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ: أَيْ بِوِقَاعِهِ أَهْلَهُ فِي رَمَضَانَ، وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [11/ 101].
فَقَالُوا: غَيْرَ خُسْرَانٍ، وَالْخُسْرَانُ يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ، وَالْقَطْعِ.
كَمَا جَاءَ فِي مَعْنَاهُ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [11/ 63]، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ مَعْنَى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ، دَائِرٌ بَيْنَ مَعْنَى الْقَطْعِ وَالْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ.
أَمَّا قَطْعُهَا فَلَمْ يُقَدِّرْ عَلَيْهِ قَطْعَ يَدَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ.
وَأَمَّا الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ: فَقَدْ هَلَكَ بِالْغُدَّةِ.
وَأَمَّا الْخُسْرَانُ: فَمَا أَشَدَّ خُسْرَانِهِ بَعْدَ هَذَا الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى قَدْ تَعَيَّنَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي الْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ، فَمَا مَعْنَى إِسْنَادِ التَّبِّ لِلْيَدَيْنِ؟
الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [96/ 16]، مَعَ أَنَّ الْكَاذِبَ هُوَ صَاحِبُهَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأُسْلُوبِ لَابُدَّ فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ اخْتِصَاصٍ لِلْجُزْءِ الْمَنْطُوقِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ.
فَلَمَّا كَانَ الْكَذِبُ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ وَيُذِلُّ النَّاصِيَةَ، وَعَكْسُهُ الصِّدْقُ يُبَيِّضُ الْوَجْهَ وَيُعِزُّ النَّاصِيَةَ، أَسْنَدَ هُنَاكَ الْكَذِبَ إِلَى النَّاصِيَةِ لِزِيَادَةِ اخْتِصَاصِهَا بِالْكَذِبِ عَنِ الْيَدِ مَثَلًا.
وَلَمَّا كَانَ الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ غَالِبًا بِمَا تَكْسِبُهُ الْجَوَارِحُ، وَالْيَدُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا فِي ذَلِكَ أُسْنِدَ إِلَيْهَا الْبَتُّ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرَدَّ صَاحِبُ الْيَدَيْنِ، مَا جَاءَ بَعْدَهَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَبَّ} أَيْ: أَبُو لَهَبٍ نَفْسُهُ.
وَسَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ أَوِ الْإِنْشَاءِ، فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ.
وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَتَبَّ، فَهُوَ إِخْبَارٌ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ لِلْإِنْشَاءِ كَقَوْلِهِ: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [80/ 17].
ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي تَصْدِيقًا لَهُ، وَجَاءَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: {وَقَدْ تَبَّ}.

.تفسير الآية رقم (2):

{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}. سَوَاءٌ كَانَتْ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَوْ كَانَتْ نَافِيَةً فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَالَهُ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَسَبَ}:
فَقِيلَ: أَيْ مِنَ الْمَالِ الْأَوَّلِ مَا وَرِثَهُ أَوْ مَا كَسَبَ مِنْ عَمَلٍ جَرَّ عَلَيْهِ هَذَا الْهَلَاكَ، وَهُوَ عَدَاؤُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [92/ 11].
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ مَعْنَى مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [45/ 10].
وَسَاقَ كُلَّ النُّصُوصِ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِتَمَامِهَا.
تَنْبِيهٌ:
فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَانِ هُمَا:
أَوَّلًا: لَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ فِي مَكَّةَ مُلَاطِفًا حَلِيمًا، فَكَيْفَ جَابَهَ عَمَّهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كَانَ يُلَاطِفُهُمْ مَا دَامَ يَطْمَعُ فِي إِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ فِي مَحَلِّهِ، كَمَا وَقَعَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يُلَاطِفُ أَبَاهُ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [19/ 44]. {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [19/ 43]، فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [9/ 114].
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ مَجِيءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَّ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} مَعَ أَنَّهَا كَافِيَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ إِنْشَاءً لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ أَوْ إِخْبَارًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَالْجَوَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا الْخَبَرَ، وَقَدْ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، أَوْ إِنْشَاءً وَقَدْ لَا يُنَفَّذُ كَقَوْلِهِ: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [80/ 17]، أَوْ يَحْمِلُ عَلَى الذَّمِّ فَقَطْ، وَالتَّقْبِيحِ فَجَاءَ: {وَتَبَّ} لِبَيَانِ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لِيَيْأَسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ إِسْلَامِهِ. وَتَنْقَطِعُ الْمُلَاطَفَةُ مَعَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ وَقْعَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنْ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [6/ 115]، وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [10/ 33].
نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

.سُورَةُ الْإِخْلَاص:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآية رقم (1):

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. الْأَحَدُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيِ: الْوَاحِدُ الْوِتْرُ، الَّذِي لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، وَلَا صَاحِبَةَ، وَلَا وَلَدَ، وَلَا شَرِيكَ. اهـ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى.
وَأَصْلُ أَحَدٍ: وَحَدٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً.
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِعَةِ:
كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ** بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحَد

وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي أَحَدٍ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ.
قَالَ الْخَلِيلُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَحَدُ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْلَهَا وَحَدٌ، وَقُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً لِلتَّخْفِيفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْأَحَدَ لَيْسَا اسْمَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَا يُوصَفُ شَيْءٌ بِالْأَحَدِيَّةِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَحَدٌ وَلَا دِرْهَمٌ أَحَدٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ وَاحِدٌ أَيْ فَرْدٌ بِهِ، بَلْ أَحَدٌ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِهَا فَلَا يُشْرِكُهُ فِيهَا شَيْءٌ.
ثُمَّ قَالَ: ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ فِي الْأَحَدِ، وَالْأَحَدُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ وَاحِدٌ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: لَكِنَّهُ يُقَاوِمُهُ اثْنَانِ بِخِلَافِ الْأَحَدِ.
فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ أَحَدٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَكِنَّهُ يُقَاوِمُهُ اثْنَانِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ، وَالْأَحَدَ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ.
تَقُولُ فِي الْإِثْبَاتِ رَأَيْتُ رَجُلًا وَاحِدًا.
وَتَقُولُ فِي النَّفْيِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ.
أَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنِ الْخَلِيلِ، وَقَدْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فَقَالَ: وَرَجُلٌ وَاحِدٌ وَأَحَدٌ، أَيْ: خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ أَحَدًا تُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ فَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْإِثْبَاتِ أَيْضًا.
كَقَوْلِهِ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [4/ 43].
فَتَكُونُ أَغْلَبِيَّةً فِي اسْتِعْمَالِهَا وَدَلَالَتِهَا فِي الْعُمُومِ وَاضِحَةً.
وَقَالَ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ فِي بَابِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ وَمَا بَعْدَهَا: أَحَدٌ، إِنَّهَا فَرْعٌ وَالْأَصْلُ الْوَاوُ وَحَدٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْوَاوِ وَفِي مَادَّةِ وَحَدَ. قَالَ: الْوَاوُ وَالْحَاءُ وَالدَّالُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الِانْفِرَادِ مِنْ ذَلِكَ الْوَحْدَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ وَاحِدُ قَبِيلَتِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِثْلُهُ قَالَ:
يَا وَاحِدَ الْعُرْبِ الَّذِي ** مَا فِي الْأَنَامِ لَهُ نَظِيرُ

وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ لَبَشَّارٍ يَمْدَحُ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ، أَوْ لِابْنِ الْمَوْلَى يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ، نَقْلًا عَنِ الْأَغَانِي.
فَيَكُونُ بِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ بِالْوَاوِ وَالْهَمْزَةَ فَرْعٌ عَنْهُ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْعُمُومِ أَوْضَحُ أَيْ أَحَدٌ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَدٌ، أَيْ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ وَلَا شَرِيكَ، وَلَا نَظِيرَ وَلَا نِدَّ لَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَقَدْ فَسَّرَهُ ضِمْنًا قَوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [112/ 4].
وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَمَّا الْمَعْنَى الْعَامُّ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، وَالرِّسَالَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ كُلَّهَا، بَلْ وَجَمِيعَ الرِّسَالَاتِ: إِنَّمَا جَاءَتْ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى، بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ. بَلْ كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ.
كَمَا قِيلَ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ** تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ

أَمَّا نُصُوصُ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الصَّافَّاتِ وَفِي غَيْرِهَا، وَفِي الْبَقَرَةِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [2/ 163].
وَفِي التَّوْبَةِ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [9/ 31]، فَجَاءَ مَقْرُونًا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَفِي ص قَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [38/ 65].
وَكَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّسَالَةَ كُلَّهَا جَاءَتْ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [14/ 52]، سُبْحَانَهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَتَنَزَّهَتْ صِفَاتُهُ، فَهُوَ وَاحِدٌ أَحَدٌ فِي ذَاتِهِ وَفِي أَسْمَائِهِ وَفِي صِفَاتِهِ وَفِي أَفْعَالِهِ.
وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى عَقْلًا كَمَا قَرَّرَهُ نَقْلًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [17/ 42- 43].
وَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [21/ 22].
فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ فَسَادِهِمَا بِعَدَمِ تَعَدُّدِهِمَا، وَجَمَعَ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ فِي قَوْلِهِ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [23/ 91].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الصَّمَدُ}.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: {يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [112/ 3].
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْمُتَنَاهِي فِي السُّؤْدُدِ، وَفِي الْكَمَالِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَقِيلَ: مَنْ يَصْمُدُ الْخَلَائِقُ إِلَيْهِ فِي حَاجَاتِهِمْ، وَلَا يَحْتَاجُ هُوَ إِلَى أَحَدٍ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، مَعْنَى الصَّمَدِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [6/ 14] فَذَكَرَ شَوَاهِدَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا.
وَبِإِمْعَانِ النَّظَرِ فِي مَبْدَأٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، يَتَّضِحُ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا تَفْسِيرٌ لِأَوَّلِهَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لِأَنَّ الْأَحَدِيَّةَ هِيَ تَفَرُّدُهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ كُلِّهَا، وَلِأَنَّ الْمَوْلُودَ لَيْسَ بِأَحَدٍ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ وَالِدِهِ.
وَالْوَالِدُ لَيْسَ بِأَحَدٍ؛ لِأَنَّ جُزْءًا مِنْهُ فِي وَلَدِهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ يَكُونُ لَهُ كُفْءٌ، فَلَيْسَ بِأَحَدٍ لِوُجُودِ الْكُفْءِ، وَهَكَذَا السُّورَةُ كُلُّهَا لِتَقْرِيرِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.